فصل: 2- الوسائل البعيدة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الواضح في علوم القرآن



.ثانيا- الكلمة القرآنية:

تمتاز الكلمة التي تتألف منها الجمل القرآنية بالميزات التالية:

.أ- جمال توقيعها في السمع:

فليس في القرآن لفظ ينبو عن السمع، أو يتنافر مع ما قبله أو ما بعده، فالكلمة القرآنية في الذروة من الفصاحة، وهي تحمل المعنى في طياتها، واقرأ إن شئت قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها} [النازعات: 27- 29] وانظر إلى كلمة (أغطش) كيف أنها تقدم لك المعنى في تلافيف حروفها قبل أن تقدمه في معناها اللغوي المحفوظ، وفي الوقت نفسه هي منسجمة مع ما قبلها وما بعدها من الألفاظ، لا ثقل فيها ولا إغراب، وكذلك بقية ألفاظ الآية، فكلها توقع على السمع موسيقا رائعة في منتهى الجمال.

.ب- اتساقها مع المعنى:

وكأن القارئ يشم منها رائحة المعنى المطلوب، أو يلحظ فيها إشراقا يصور المعنى أمام العين. اقرأ قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ} [التكوير: 17- 18] ثم انظر كيف أنك تشم رائحة النهار من كلمة (تنفس).

.ج- اتساع دلالتها، لما لا تتسع له دلالات الكلمات الأخرى من المعاني والمدلولات عادة:

بحيث يعبر بكلمة واحدة عن معنى لا يستطاع التعبير عنه إلا ببضع كلمات أو جمل. وخذ مثالا على ذلك قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة]. أراد الله تعالى أن يحدثنا في هذه الآية عن مظاهر نعمته علينا، ومن جملتها النار، فنبهنا إلى مختلف فوائدها لحياتنا على اختلاف أطوارها، فعبر عن ذلك بكلمة (المقوين) التي تحمل كل المعاني التي يمكن أن يعبر بها عن فوائد النار، فهي: جمع مقو، وهو المسافر، والجائع، والمستمتع، والنار إنما يستفيد منها المسافر، كما يحتاجها الجائع لتحضير طعامه، وهي إلى جانب ذلك كله من أسباب المتعة والرفاهية.
وهذه الميزات الثلاث قلما يتخلف اجتماعها في كلمات القرآن، بينما لا تجتمع في غيره إلا نادرا، وما ذاك إلا لأن القرآن من كلام رب العالمين.

.ثالثا- الجملة القرآنية وصياغتها:

ويتجلى مظهر الإعجاز فيها بما يلي:

.أ- التلاؤم والاتساق بين كلماتها:

وتلاحق حركاتها وسكناتها، بنظم بديع يستريح له السمع والصوت والنطق. واقرأ إن شئت قوله تعالى: {فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر] وتأمل تناسق الكلمات في كل جملة، وتأمل أيضا تآلف الحروف وتعاطف الحركات والسكنات والمدود، وانظر كيف أن كلا منها كأنما صب في مقدار، وأنه قدر بعلم اللطيف الخبير.

.ب- الدلالة بأقصر عبارة على أوسع معنى تام متكامل:

دون اختصار مخلّ أو ضعف في الدلالة. واقرأ في هذا قوله تعالى في سورة الكهف: {حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها} [الكهف: 77] فكان الإتيان بالضمير هنا يؤدي المعنى، كأن يقال: استطعماهم، ولكن الإتيان بالاسم الظاهر- وهو أهلها- يفيد معنى أعم وأوسع؛ لأنه جمع مضاف يفيد العموم، فيدل على أنهما استطعما جميع أهل القرية، بخلاف (استطعماهم) فإنه يحتمل أن الاستطعام كان لمن أتياهم، وهم سكان أول القرية.

.ج- إخراج المعنى المجرد في مظهر الأمر المحس الملموس:

ثم بث الروح والحركة في هذا المظهر نفسه، بحيث يجد القارئ إقناع العقل وإمتاع العاطفة، بما يفي بحاجة النفس البشرية تفكيرا ووجدانا في تكافؤ واتزان، فلا تطغى قوة التفكير على قوة الوجدان، ولا قوة الوجدان على قوة التفكير، وهكذا تجد وأنت تقرأ القرآن أن العقل يفهم والخيال يتصور، وذلك خلاف المألوف والمعروف لدى قراءة أي كلام أو كتاب آخر. واقرأ- على سبيل المثال- قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس: 8- 9]. وانظر كيف تضع في خيالك إنسانا يلتف حول عنقه غل عريض، مرتفع إلى ذقنه، جعل رأسه صاعدا إلى الأعلى لا يتحرك، فتلك هي الصورة الساخرة للتكبر. ثم انظر حاله وهو في مكان مغلق، وقد غشى الظلام على بصره، فهو لا يملك حراكا نحو أي اتجاه، وتلك هي صورة من لم ينفع معه هدي، وظل في ضلاله.

.رابعا- جلال الربوبية وكبرياء الألوهية في آياته:

من أجلى مظاهر الإعجاز في القرآن الكريم ما يوجد في كثير من آياته من جلال الربوبية وكبرياء الألوهية، بقطع النظر عن المعنى الذي يؤديه اللفظ. وهذا مما لا يقوى على اختلاقه أي إنسان، في أي صنف من أصناف المعاني والكلام.
وبيان ذلك: أن الكلام مرآة لطبيعة المتكلم، تتجلى فيما يكتب أو يقول، وتزداد وضوحا كلما تنوعت أبحاثه ومواضيعه. وإذا كان في مقدور الإنسان أن يظهر بصورة طبيعية أخرى، فإن ذلك لا يمكن أن يصل إلى حد التناقض، بحيث ينطبع بخصائص البشرية تارة، وبخصائص الألوهية أخرى. وإذا كان هذا غير ممكن، فلا يمكن لإنسان ما أن يصوغ كلاما ينشر من حوله عظمة الربوبية وكبرياء الألوهية في صياغة لا تكلف فيها ولا تمثيل، كما هو ظاهر في كلام الله عزّ وجلّ.
واقرأ- على سبيل المثال- قوله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى} [طه].
واقرأ- أيضا- قوله تعالى: {حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ} [المؤمنون].
وانظر- بعد ذلك- إلى هذا الكلام الذي يتنزل من عرش الربوبية، ويغمر النفس بالرهبة والجلال، هل يمكن لبشر أن يصطنعه اصطناعا، وأن ينطبق به تمثيلا، أو يتحلى به تزويرا؟!

.خامسا- التصوير الفني في القرآن:

.تمهيد:

إن القرآن الكريم حين يخاطب العقلاء، إنما يخاطب فيهم عقولهم، كما يثير فيهم مشاعرهم وأحاسيسهم، بأسلوبه الفذ، وبيانه المعجز، وموسيقاه الساحرة، فيجعل المخاطب يتخيل المعنى المجرد صورة ناطقة يتحسس فيها الحركة والحياة.
وإذا كان التصوير تثبيتا للظل الصامت، أو مجموعة خطوط وألوان متجمعة، تضع أمام الرائي لوحة قد تثير في ذهنه معنى من المعاني، أو تنقل إلى مخيلته مشهدا من المشاهد، فإن التصوير القرآني أوسع من هذا بكثير: فهو تحويل الحروف الصوتية الجامدة إلى ريشة تنبع من رأسها الأصباغ والألوان المختلفة، حسب الحاجة والطلب، لتحيل- بدورها- المعاني المعتادة إلى صور يتأملها الخيال، ويدركها الشعور، وتكاد العين أن تستوعبها قبل أن يستوعبها العقل. وهو- كما يقول صاحب كتاب التصوير الفني في القرآن- تصوير باللون، وتصوير بالحركة، وتصوير بالتخييل، كما أنه تصوير بالنغمة تقوم مقام اللون في التمثيل. وكذلك: هو تصوير حي، منتزع من عالم الأحياء، لا ألوان مجردة وخطوط جامدة، تصوير تقاس الأبعاد فيه والمسافات بالمشاعر والوجدانات، فالمعاني ترسم وهي تتفاعل في نفوس آدمية حية، أو في مشاهد من الطبيعة تخلع عليها الحياة.

.1- مظاهر التصوير الفني في القرآن ووسائله:

.أ- مظاهره:

إن المتتبع لنصوص كتاب الله تعالى، والممارس لتلاوته آناء الليل وأطراف النهار، ليلمس التصوير القرآني يتدرج في مظاهر متعددة، وهي:

.1- إخراج مدلول اللفظ من دائرة المعنى الذهني المجرد إلى الصورة المحسوسة والمتخيلة:

فهو يعبر عن المعنى الذهني بالصورة المحسوسة المتخيلة، فيكون الخطاب أوقع في النفس، وأقوى في التأثير، وأدعى إلى القبول؛ إذ يجعل الحس يتأثر عن طريق الخيال بالصورة ما شاء له التأثر؛ فيستقر المعنى في النهاية في أعماق النفس.
وخذ مثالا على ذلك: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ} [الأعراف: 40] وانظر كيف ترسم في الخيال صورة لتفتح أبواب السماء، وأخرى لولوج الجمل- وهو ذكر الجمل أو الحبل الغليظ- في سم الخياط، ويترك الحس يتأثر- عن طريق الخيال- بالصورتين ما شاء له التأثر، ليستقر في النهاية معنى استحالة قبول هؤلاء المكذبين المستكبرين عن آيات الله تعالى.
ويدخل في هذا المظهر تصوير الحالات النفسية والمعنوية:
فالتصوير القرآني كما أنه يخرج المعاني الذهنية بصورة حسية، كذلك يخرج الحالات النفسية والمعنوية صورا شاخصة أو متحركة، ويعدل بها عن التعبير المجرد إلى الرسم المصور.
ومثال ذلك قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11] إذ تصور لنا ذلك التردد- الذي يحار فيه ويتبلبل ذلك الإنسان الذي لم ترسخ العقيدة في قلبه؛ ولم تتضح صورة الإيمان في نفسه- بصورة إنسان يقوم ليؤدي عبادة على أرض لا تستقر عليها أقدامه، وإلى جنبه واد عميق يخشى السقوط فيه، فهو قلق مضطرب.

.2- التخييل الحسي:

وهو تلك الحركة التي يضفيها التصوير القرآني على اللوحة الصامتة فيبث فيها الحياة، ويحولها إلى منظر حي متحرك، فهو لا يكاد يعبر بالصورة المحسة والمتخيلة- عن المعنى الذهني أو الحالة النفسية- حتى يرتقي بالصورة التي رسمها فيمنحها الحياة النابضة، والحركة المتجددة، فإذا المعنى الذهني حركة يرتفع بها نبض الحياة، وإذا الحالة النفسية لوحة متحركة أو مشهد حي.
ومن أمثلة ذلك:
أ- قوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5]. فانظر كيف استحالت الأرض الجامدة كائنا حيا، بلمسة واحدة، في لفظة واحدة (اهتزت) وكأنها ذاك الكائن الحي الذي أخمد الظمأ أنفاسه، حتى إذا مس الماء أحشاءه عادت إليه الحياة وانبعث فيه النشاط.
ب- قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18] فالحياة تخلع- في هذه الآية- على الصبح وكأنه أصبح كائنا حيا يتنفس، فتتنفس معه الحياة، وتشرق بإشراقة من ثغره، ويدب النشاط في الأحياء على وجه الأرض والسماء.

.3- التجسيم والتضخيم:

إن من مظاهر التصوير القرآني تجسيم المعنويات وتضخيمها، وإبرازها وكأنها أجسام أو محسوسات- على العموم- تتضاخم وتتعاظم- حسبما يقتضي الجو والمشهد- حتى تملأ النفس شعورا وإحساسا.
ومن أمثلة ذلك:
أ- قوله تعالى: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ} [الأنعام: 31]. فانظر: كيف تجسم الأعمال السيئة وكأنها أحمال مثقلة، تنوء بحملها ظهور أولئك الفاسقين يوم القيامة.
ب- قوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف: 5] ففيه تضخيم وتفظيع لافترائهم على الله تعالى بقولهم: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [الكهف: 4].

.ب- وسائله:

يتحقق التصوير الفني في القرآن بوسائل متعددة منها القريبة ومنها البعيدة:

.1- الوسائل القريبة:

وهي تلك القواعد التي استخلصت واستنبطت من أسلوب التصوير القرآني، ووضع عليها العلماء علم البيان من استعارة وتشبيه، ومجاز مرسل وتمثيل.
واقرأ إن شئت قوله تعالى: {نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} [البقرة: 223] وقوله تعالى: {إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ} [الملك: 7] وقوله تعالى: {وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً} [الكهف: 99] وانظر إلى ما فيها من استعارات وتمثيل.
واقرأ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [الرعد: 14] وانظر إلى ما فيها من روعة التشبيه. وقوله تعالى: {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ} [الحاقة: 7].
وأما المجاز المرسل فاقرأه في مثل قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً} [غافر: 13] وإنما الذي ينزل سبب الرزق وهو المطر، وفي قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ} [المطففين: 22] والنعيم معنى يحل في مكان يكون فيه الأبرار، وفي قوله تعالى: {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 27] والمولود لا يكون فاجرا إلا باعتبار ما سيكون.

.2- الوسائل البعيدة:

وهي ذاك التناسق الفني الذي يبلغ الذورة في التصوير، بتخير الألفاظ ونظمها في نسق خاص يبلغ في الفصاحة أرقى درجاتها، وينشأ عنه إيقاع موسيقي رفيع، مع تسلسل معنوي بين الأغراض في سياق الآيات، فتخرج الكلمة والجملة في قالب من اللفظ وطريقة الأداء يبث في الإحساس والخيال صورة مجسمة حية للمعنى.
على أنه ليس بمقدور الفكر الإنساني: أن يقف على القاعدة التي يتم بها تصوير اللفظ القرآني للمعنى، ليتخذها ضابطا في صياغة الكلام، بل كل ما في الإمكان أن يعلم ويحس: أن اللفظ القرآني يصور المعنى ويلصق صورته وشكله بالإحساس، بتأثير من تناسق حروفه وحركاته، وتركيب مفرداته وجمله.
والأمثلة على ذلك القرآن كله:
واقرأ إن شئت- على سبيل المثال- قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة: 38] ليتصور في خيالك ذلك الجسم المتثاقل، يرفعه الرافعون في جهد، فيسقط من أيديهم في ثقل وكأنه القناطير المقنطرة من الأثقال، كل ذلك يرسمه في خيالك هذا اللفظ المختار (اثاقلتم).
- واقرأ أيضا قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72] لترتسم صورة التباطؤ في جرس العبارة كلها، وإن اللسان ليكاد يتعثر وهو يتخبط فيها حتى يصل ببطء إلى نهايتها.
- واقرأ كذلك أول ما نزل من القرآن من سورة العلق، لترى ذلك التناسق بين المعاني والأهداف، وذلك الجرس الموسيقى الأخّاذ إذ يقول الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1- 5].